"كلمة.. لعراقٍ واحد"
صحيفة إلكترونية مستقلة

خريف كردستان

محمد غازي الاخرس
وأنا أراقب جيشان مشاعر الأكراد وهم يذهبون إلى الاستفتاء للإدلاء بأصواتهم لتحقيق حلمهم القديم، تذكرت “الحب في زمن الكوليرا”، الرواية الساحرة التي كتبها غابرييل غارسيا ماركيز، وسرد فيها قصة العاشق الأسطوري فلورنتينو أريثا.

ذاك عاشق مجنون ظل يحلم بالزواج من فيرمينا دازا لأكثر من خمسين عاما. كان عاملا فقيرا وكانت هي تلميذة جميلة. تبادلا الحب لسنوات قليلة ثم تزوجت من جيفينال ايربينو، الطبيب الوسيم تاركة حبيبها يعانق حسرة تكبر في قلبه سنة بعد أخرى. وفي الأخير، بات كائنا عليلا بالغرام، ينام ويصحو على حلم الاقتران بحبيبته. خلال ذلك، يقرر النجاح في حياته ليكون لائقا بها في حال استطاع الوصول إليها. وبالفعل ينجح في حياته ويصبح مليونيرا. ثم يصل إليها في يوم وفاة زوجها ويعرض عليها حبه المستعر فتطرده وتشتمه. مع هذا يظل مصرا ويواصل محاولاته ويبدأ بإرسال رسائل عاطفية مؤثرة، وعبر الرسائل، ينجح في جعلها تتقبله كصديق وتتبادل معه الأحاديث العادية في وقت كان ما زال هو ينظر إليها بنفس نظرة الصبي الذي كانه قبل خمسين عاما. إنه يراها أجمل نساء الأرض رغم شيخوختها. في آخر جزء من الرواية يدعوها إلى رحلة نهرية بسفينة تملكها شركته. وهناك تفعل الرومانسية فعلها فيعاودها الشعور القديم، تشعر أنها تحبه لكن عمرها الكبير يهمس لها ـ لم تعودي صالحة للحب أيتها العجوز. رغم ذلك، يصر فورنتينو على تحقيق حلم الاستقلال، عفوا، الارتباط بحبيبته الصبية العجوز. هنا يخطر في باله أن يخادع المسافرين الآخرين فيزعم إن في سفينته ينتشر وباء الكوليرا. غير أن الخدعة لا تنجح بعد تدخل السلطات وحجرها على السفينة في النهر. ثم تنتهي الرواية بمشهد عجيب ربما استعاده العراقي عادل كاظم لاحقا في خاتمة مسلسل “حكاية المدن الثلاث” ؛ السفينة تعبر النهر ذهابا وإيابا رافعة علم الكوليرا الأصفر. تظل كذلك، تروح وتجيء دون أن ترسو إلّا للتزود بالوقود. تفعل السفينة ذلك وفي داخلها عش حبيبين يعيشان آخر أيامهما. عجوزان لا يباليان بكبر العمر بل يفكران أنهما ربما وصلا إلى مرحلة الحب السامي الذي لا يراد من ورائه سوى الحب.

 علاقة كردستان بفكرة الاستقلال تطابق علاقة عاشقينا غريبي الأطوار. العالم يمضي قدما تاركا خلفه مرحلة الدول القومية الضيقة بينما هم ما زالوا يعيشون في لحظة ما قبل سايكس بيكو ولوزان وفرساي. يحلمون بدولة راحت حلاوتها مع عصر الدول، والأنكى من ذلك أنهم مثل فلورنتينو أريثا وفيرمينا دازا، صنعوا عشهم في سفينة رفع العالم عليها راية الوباء الأصفر، سفينة سكرانة تغدو وتجيء بين ضفتين، راية الوباء ترفرف وعشاق حلم الدولة ينامون في العش. أي مجنون كتب رواية “خريف كردستان”، أي عاقل سيقرأها ويبكي عليها!
*الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي "كلمة"

ليست هناك تعليقات